فصل: قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية (124):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

.قال إلكيا هراسي:

سورة البقرة:
قوله تعالى في شأن المنافقين وإظهارهم الإيمان مع إضمار الكفر وعدم الأمر بقتلهم يدل على جواز استتابة الزنديق، فإنه تعالى ما أمر بقتلهم.

.قوله تعالى: {يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (9):

هو مجاز في حق اللّه تعالى، فإن الخديعة إخفاء الشيء. ولا يخفى على اللّه شيء. والقوم إن لم يعرفوا اللّه تعالى فلا يصح أن يقصدوه بالخداع، وكذلك إن عرفوه، ولكنهم عملوا عمل المخادع، ووباله رجع إليهم، وكأنهم إنما يخادعون أنفسهم.
أو يقال: يخادعون رسول اللّه.

.وقوله تعالى: {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (15):

يجوز أن يكون مقابلة الكلام بمثله، كقوله: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} وكذلك {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} الآية.
وقيل: إنه لما رجع وبال الاستهزاء عليهم فكأنه استهزأ بهم.
ولما كانت جريمتهم أضر على المسلمين، أخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار، ودل على أن العقوبات في الدنيا ليست على أقدار الجرائم، وإنما هي على قدر مصالح الدنيا، وجائز أن لا تشرع العقوبة في الدنيا أصلا وإنما تشرع في الآخرة.
وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مأمورا في ابتداء الإسلام بالصفح عنهم، والدفع بالتي هي أحسن، وفرض القتال بعد ذلك للمصلحة.
فيجوز أن يقتل من يظهر الكفر دون من يسر للمصلحة، ويجوز خلافه.
ويجوز أن يرد الشرع بقتل النسوان وأن يرد بخلافه، والعقل لا يمنع من ذلك.

.قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا} (22):

إبانة للقدرة بأن جعلها على مثال الفراش، وليس ذلك لحكم الإطلاق فإنه لو حلف أن لا يبيت على فراش، فبات على الأرض لم يحنث، ولو قال: لا أقعد في السراج فقعد في الشمس لم يحنث، لأن الإطلاق لا ينصرف إليه... وكذلك في قوله: {وَالْجِبالَ أَوْتادًا}. فأفهم الفرق بين العرف الشرعي واللغوي، والمذكور على وجه التقييد.

.قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (29):

يدل على إباحة الأشياء في الأصل، إلا ما ورد فيه دليل الحظر، وكذلك قوله: {سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ}.
ودل قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا} إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (24):
على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} (25):
وهو دليل على أنه أول مبلغ إليهم.
وقال العلماء: إذا قال أي عبد بشرني بولادة فلان فهو حر، أن الأول من المبشرين يعتق دون الثاني، لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره، وهو ما يحصل به الاستبشار ويأتي على بشرة الوجه.
ولو قال: أي عبد أخبرني بولادتها عتق الثاني مثل الأول، ولذلك يقال: ظهرت تباشير الأمر لأوائله، ولا تطلق البشارة في الشر إلا مجازا.
وقيل: هو عام فيما سر وغم، لأن أصله فيما يظهر أولا في بشرة الوجه من سرور أو غم، إلا أنه كثر فيما يسر فصار الإطلاق أخص به منه بالشر.

.قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} (41):

يدل على أن الكفر وإن كان قبيحا، فالأول من السابق أشد قبحا، وأعظم لمأتمه وجرمه، لقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ}. الآية.
وقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وقوله: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وقال عليه السلام: «إن على ابن آدم القاتل من الإثم في كل قتيل ظلما لأنه أول من سن القتل».
وقال: «من سن سنة حسنة» الحديث.

.وقوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} (43):

يجوز أن يرجع إلى صلاة معهودة، متقدمة، ويجوز أن يكون مجملا موقوفا على بيان متأخر عند من يجوز ذلك.

.{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (43):

لعله ذكره لأن صلاة أهل الكتابين لا ركوع فيها، فأراد أن يخصص الركوع ليعلم به تميز صلاتنا عن صلاتهم.

.قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} (59):

يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها، وأنه يتعين اتباعها.

.قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (67):

هو مقدم في التلاوة.

.وقوله: {قَتَلْتُمْ نَفْسًا} (72):

مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة.
ويجوز أن يكون في النزول مقدما وفي التلاوة مؤخرا.
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها، على حسب ترتيب تلاوتها، فكان اللّه تعالى أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتيل، فأمروا أن يضربوه ببعضها.
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها وإن كان مقدما في المعنى، لأن الواو لا توجب الترتيب، كقول القائل: أذكر إذ أعطيت زيدا ألف درهم إذ بنى داري، والبناء متقدم العطية. ونظيره في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}- إلى قوله: {إِلَّا قَلِيلٌ}.
فذكر إهلاك من أهلك منهم، ثم عطف عليه بقوله: {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها}.
فالمعنى يجب مراعاة ترتيبه لا اللفظ، ويستدل به على جواز تأخير بيان المجمل.
وقد قيل: إنه كان عموما وكان ما ورد بعده نسخا.
فقيل له فهو نسخ قبل مجيء وقته.
فأجابوا: بأنه قد جاء وقته وقصروا في الأداء.
وقد قيل فهلا أنكر عليهم في أول المراجعة؟
فأجابوا: بأن التغليظ ضرب من الكبر، ودل عليه قوله: {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} (71).

.وقوله: {لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} (68):

لا يعلم إلا بالاجتهاد، فهو دليل على جواز الاجتهاد، ودليل على اتباع الظواهر مع جواز أن يكون الباطن على خلافه.

.وقوله: {مُسَلَّمَةٌ} (71):

يعني من العيوب، وذلك لا يعلم حقيقة وإنما يعلم ظاهرا.

.قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} الآية (75):

دليل على أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد عن الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم يثنه ذلك عن عناده.

.قوله تعالى: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} (80):

فيه رد على أبي حنيفة في استدلاله بقوله عليه السلام: «دعي الصلاة أيام حيضتك». في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما أو يومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما.
فيقال لهم: فقد قال اللّه تعالى في الصوم: {أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ} وعنى به جميع الشهر، وقال: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} وعنى به أربعين يوما، وإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد.
ولعله أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع.

.قوله تعالى: {بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (81):

فيه دليل على أن المعلق من اليمين على شرطين لا يتنجز بأحدهما ومثله قوله تعالى: {الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا}.

.قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (83):

يجوز أن يكون مخصوصا بالمسلمين.
ويجوز أن يكون قد نسخه الأمر بقتال المشركين ولعنهم.
ويجوز أن يكون في الدعاء إلى اللّه تعالى.

.قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها} (114):

قوله: {منع} نزل في شأن المشركين حين منعوا المسلمين من ذكر اللّه تعالى في المسجد الحرام، وسعيهم في خرابه بمنعهم من عمارته بذكر اللّه وطاعته.
وقوله: {أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ} (114) يدل على أن للمسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها، لولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها.
ويدل على مثل ذلك قوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ} وعمارتها تكون ببنائها وإصلاحها، والثاني: حضورها ولزومها.
كما يقال: فلان يعمر مسجد فلان، أي يحضره ويلزمه.

.قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} (115):

يدل على جواز التوجه إلى الجهات في، النوافل، وللمجتهد جواز التعبد بالجميع.

.وقوله: {وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} الآية (116):

يدل على امتناع اجتماع الملك والولادة، إلا جواز الشراء توسلا إلى العتق بقوله عليه السّلام: «فيشتريه فيعتقه». أي بالشراء يعتقه، كقوله عليه السلام: «الناس عاريان: فبائع نفسه فموبقها، ومشتر نفسه فمعتقها». يريد أنه يعتقها بالشراء لا باستئناف عتق.

.قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية (124):

دلت على أن التنظف ونفي الأوساخ والأقذار عن الثياب والبدن مأمور به، وقد قال سليمان بن فرج أبو واصل: أتيت أبا أيوب فصافحته فرأى في أظفاري طولا، فقال: جاء رجل إلى النبي عليه السّلام يسأل عن أخبار السماء، فقال: يجيء أحدكم فيسأل عن أخبار السماء وأظفاره كأنها أظفار الطير يجتمع فيها الوسخ والنفث؟
وقالت عائشة رضي اللّه عنها: خمس لم يكن النبي صلّى اللّه عليه وسلم: يدعهن في سفر ولا حضر: المرآة، والكحل، والمشط، والمدري، والسواك.
قوله تعالى: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا} (124) الإمام: من يؤتم به في أمر الدين، كالنبي عليه السّلام، والخليفة والعالم.
أخبر اللّه تعالى إبراهيم أنه جاعله للناس إماما، وسأل إبراهيم ربه أن يجعل من ذريته أئمة، فقال تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}.
ودل قول اللّه تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} على أن الإجابة قد وقعت له في أن من ذريته أئمة، ولكن لا إمامة لظالم حتى لا يقتدى به، ولا يجب على الناس قبول قوله في أمر الدين.
نعم: كان يجوز أن تظهر المعجزة على يد فاسق ظالم، ويجب قبول قوله لوجود الدليل، وإن لم يجب قبول قول الفاسق، لعدم ظهور الصدق الذي هو دليل قبول قوله، فأما دليل المعجزة فلا يختلف بالظلم وعدمه عقلا، غير أن العصمة وجبت للأنبياء سمعا.
ويجوز عقلا وجوب قبول قول الفاسق، ولكن دلت هذه الآية على أن عهد اللّه تعالى لا ينال الظالمين.
فيحتمل أن يكون ذلك النبوة، ويحتمل أن يكون ما أودعهم من أمر دينه، وأجاز قولهم فيه، وأمر الناس بقبوله منهم.
ويطلق العهد على الأمر، قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا} يعني أمرنا، وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ}. يعني: ألم أقدم إليكم الأمر به.
وإذا كان عهد اللّه هو أوامره، فقوله: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لا يريد به أنهم غير مأمورين لأن ذلك خلاف الإجماع، فدل على أن المراد به أن يكونوا بمحل من تقبل منهم أوامر اللّه، ولا يؤمنون عليها.
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} يحتج به في كون الحرم مأمنا، ويحتمل أن يكون معناه جميع الحرم، كقوله: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}. وقوله: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا}. إلا أن معناه أنه مأمن عن النهب والغارات، ولذلك قال النبي عليه السّلام في خطبته يوم فتح مكة: «إن اللّه حبس عن مكة الفيل، وملك عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد».
نعم، قد روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يسفكن فيها دم، وإن اللّه تعالى حلها لي ساعة ولم يحلها للناس».
ويحتمل أن يكون جعلها مأمنا ما جعل فيها من العلامة العظيمة على توحيد اللّه تعالى، واختصاصه لها بما يوجب تعظيمها ما شوهد من مر الصيد فيها، فإن سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض، ويجتمع فيها الكلب والظبي، فلا يهيج الكلب، ولا ينفر منه الظبي، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه، وعاد إلى النفور والهرب.